فصول في الشعر الأندلسي

1 - نشأة الشعر وتطوره.
في معرض الحديث عن فضل الأندلس في الشعر بين سائر المظاهر الأدبية والثقافية قال ابن حزم يذكر أقدم شعراء الأندلس: " ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به الا جيرا والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين ". وجعونة هذا الذي ذكره كان من العرب الطارئين على الأندلس، مداحا للصميل وزير يوسف بن عبد الرحمن الفهري في عهد الولاة، وكان فارسا شجاعا يسمونه عنترة الأندلس، ولم يبق من شعره إلا أبيات يسيرة لا تدل على هذا الذي قاله ابن حزم، محاولا في كلمته أن يجعل للشعر الأندلسي موروثا أندلسيا قديما، في موضع المباهاة، وهو من أعرف الناس بقيمة الموروث ومن أكثرهم تعلقا به. وتتبقى أمامنا، بعد ذلك، حقيقة هامة في نشأة الشعر الأندلسي، وفي النماذج التي احتذاها، والمجالات التي كان يرودها، وهي انه يتكون حين كان الشعر المشرقي يشهد تجديد بشار وأبي نواس، ويقف على مفترق الطريق بين مذهبي أبي تمام والبحتري، ولما كان سكان الأندلس يلتفتون في كل شيء إلى المشرق، فقد اتخذوا من شعر المشارقة المحدثين مثالا يقلدونه، ونورا يهتدون به، أي انهم جعلوا المحدث؟ لا شعر العرب الأوائل - موروثا لهم ينسجون على منواله، ويستوحون ما فيه، وهذه الحقيقة كفيلة بتفسير جانب كبير من مظاهر الشعر الأندلسي في هذا الدور.
المؤدبون؟ أثرهم في نشأة الأدب والمقاييس النقدية
وقد كان القائم بأمر هذا الشعر المحدث وتقريبه إلى دارسي الأدب طبقة من المؤدبين، ارتحل أكثرهم إلى المشرق، واعترف مما فيه من علم وأدب، وعاد يدرس في جامع قرطبة، وقرطبة يومئذ " دار القوم "، فإلى هؤلاء وإلى المهاجرين من طلاب الحاجات، والى تشجيع الحاكمين يومئذ، يعزى في إدخال ضروب الثقافة المشرقية بلاد الأندلس، من حديث وفقه ولغة وشعر وسير. وكان من أوائل الكتب اللغوية التي هاجرت بصحبتهم كتب الأصمعي والكسائي والفراء والرياشي وأبي حاتم وابن الأعرابي وكتابا الفرش والمثال في العروض للخليل بن احمد وكتاب يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق ومؤلفات ابن قتيبة وأبي عبيد القاسم بن سلام، كما كان النحوي وابن قاسم أول من ادخلا كتاب العين للخليل ، أما في الشعر فان محمد بن عبد الله الغازي  جلب الأشعار المشروحات كلها ، وهاجر عباس بن ناصح لما سمع بنجوم أبي نواس، وروى شعره. ويجب ان ننوه هنا بمقدار ما أحرزه شعر أبي تمام من قبول في البيئة الأندلسية، فقد توفر على نقله اثنان من المؤدبين هاجرا إلى المشرق وروياه عن صاحبه واقرءاه بالأندلس وهما عثمان ابن المثنى النحوي ، ومؤمن بن سعيد ، وللأول منهما قصة طريفة: فيقال انه اجتمع مع أبي تمام في مركب ببحر القزم فأنشده أبو تمام شعره الذي يقول فيه:
الله أكبر جاء اكبر من مشى ... فتعثرت في كنهه الأوهام وكان هذا البيت مبتدأ الشعر فقال له ابن المثنى: شعر حسن لولا انه لا ابتداء له فوقذت في نفس حبيب وابتدأ الشعر بقوله:
دمن ألم بها فقال سلام ... كم حل عقدة صبره الإلمام ثم أنشده في اليوم الثاني بهذا الابتداء إلى تمامه، فقال له ابن المثنى: أنت أشعر الناس، فمعظم في نفس حبيب، ثن لقيه حبيب في انصرافه وحبيب قد عظم قدره وجل خطره فكان يؤثره ويعرف له فضله، وكان اول من ادخل شعره ، وأقرأ أبو عبد الله الغابي ديوان أبي تمام وعنه أخذه أبو العباس الطبيخي ، وهذا الثاني شرحه كما شرح شعر صريع الغواني ، وأمر الخليفة عبد الرحمن الناصر بانتساخ شعر حبيب وجمع لذلك جماعة من أدباء الأندلس يومئذ، لتحقيق ذلك ، وإزاء هذه العصبية لأبي تمام وجد أيضاً من يتعصب للبحتري ويدين بتفصيله. وهذا كله ينبئ عما كان للشعر من مقام بين عرب الأندلس، ولم يمض وقت طويل حتى كان الذوق الأندلسي قد ألف هذا النوع من الشعر، وجعله مقياسا للجودة، ولم يألف ما عداه كثيرا.

2 - الشعر الأندلسي في مظاهره الكبرى.
إذا عدنا إلى تلك القائمة من الكتب التي ألفت في أدب هذا العصر لفت نظرنا من بينها كتاب الحدائق لابن فرج وكتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، وكتاب الشعراء من الفقهاء، فإذا أضفنا إليها كتابين آخرين يقعان في أعقاب هذه الفترة وهما: البديع في فصل الربيع والارتياح بوصف الراح لأبي عامر بم مسلمة؟ وهو كتاب تضمن ما قيل في الراح والرياحين والبساتين والنواوير - تبين لنا بوضوح أي الموضوعات الشعرية هي التي كانت تستأثر باهتمام الأندلسيين، وهي على التحديد: شعر الخمر ووصف الطبيعة والغزل والزهد. وليس لدينا صور مكتملة لهذه الموضوعات ولكن يبدو مما وصلنا من شعر غزلي ان هذا الموضوع لم يتفرد بشيء واضح وكذلك شعر الخمر.
أما شعر الزهد في الأندلس فقد ولد في أحضان الثورة على الحكم الربضي إذا كان الأتقياء ينظمون أشعار الزهد ويتغنون بها في الليل ويضمنونها التعريض به ثم أخذ هذا الأدب يقوى ردا على الحياة اللاهية في المدن أو انقيادا لداعي التقوى في النفس أيام الشيخوخة كما في زهديات الغزال وممحصات ابن عبد ربه وهي قصائد تكفيرية نظمها لينقض القصائد اللاهية التي قالها في أيام الشباب. ووجد من الأتقياء من تخصص في هذا النوع من الشعر مثل ابن أبي زمنين صاحب ديوان " النصائح " وقاسم ابن نصير، الذي ألف أيضاً كتابا في الشعراء من الفقهاء تكملة لهذا الاتجاه الذي كان قد أنتجه في شعره.

3 - الشعر الأندلسي والتقليد لشعر المحدثين المشارقة.
رأي الأستاذ اميلو غرسية غومس
لا أرى الأستاذ غرسية غومس مصيبا حين يقول: " وكذلك المحدثون لم يكن لهم عند شعراء الأندلس أثر بعيد فيما خلا بدورات نلمحها بين الحين والحين ". فقد أشرت من قبل إلى ان الذوق الأندلسي قد تربى على تقدير شعر المشارقة المحدثين، حتى ميز نقاد الأندلس بين طريقتين في الشعر: طريقة العرب وطريقة المحدثين، ومالوا إلى الثانية وحاكوها، ومثلت كيف شغلوا انفسهم بتدارس ديوان أبي تمام ومسلم بن الوليد والبحتري، وكيف كان ديوان أبي تمام على وجه الخصوص محط اهتمامهم الأكبر. فمن الخير هنا أن أتلمس جوانب هذا التأثير الذي تلقاه الشعر الأندلسي من شعر المشارقة المحدثين. وأقول أن الأثر يمتد في اتجاهين: الأول أثر في الموضوع والثاني أثر في الشكل والطريقة الشعرية، أما الأول فتبيانه ليس بالأمر الميسور، وأما الثاني فانه على صعوبة تمييزه أظهر من الأول.

4 - طبقات الشعراء.
ان من يقرأ كتاب تاريخ علماء الأندلس للفرضي أو الصلة لابن بشكوال يستطيع ان يرى كل عالم أندلسي منسوبا لبلده، وان يلمس كيف كانت البلاد الأندلسية مليئة بالمحدثين والقراء والفقهاء، وكثير منهم يستحق أن يرحل إليه ويؤخذ عنه. ولكن الأمر في الشعر غير واضح على هذا النحو: صحيح أننا نجد بين الشعراء الجياني والقبري والجزيري والريي والموروري ولكن هؤلاء كانت تجذبهم قرطبة إليها للاستيطان فيها اكثر من جذبها للعلماء، لان قرطبة منتجع رزق للشعر وموطن لظهور مواهبه. ويبدو انه كان من الممكن ان نتصور انتشار الشعر على مدى واسع في المدن الأندلسية حين نتذكر ان أحد المؤلفين كتب أخبار شعراء البيرة وحدها في عشرة أجزاء - كما يقول ابن حزم - وما نظن البيرة وحدها كانت تتميز بذلك! غير ان الشعر في تلك العصور مقترن بالعطاء ومراكز السيادة ولم يكن في ذلك العصر من مراكز السيادة ما ينافس قرطبة، إلا في فترات قليلة. وفي تلك الفترات كانت هناك " بحيرات " صغيرة أو جزائر من النشاط الشعري في بعض المدن الأندلسية.

هناك تعليق واحد: